عهد الجمهورية الرقمية بدأ.. العراق بلا نقد ورقي والمركزي يفرض سلطته “حاكمًا للبلاد”

بغداد _ اكادمية العلام الحربي 

مع تزايد الضغوط على السيولة النقدية في العراق، بدأت الحكومة بتوسيع اعتمادها على أنظمة الدفع الإلكتروني داخل مؤسسات الدولة. هذه الخطوة، التي قد تبدو في ظاهرها إجراءً تقنيًا لتحديث المعاملات، ترتبط في جوهرها – وفق مختصين – بمحاولة احتواء أزمة مالية متصاعدة، عبر تقليل الاعتماد على النقد الورقي، وإبقاء أكبر قدر من الأموال ضمن النظام المصرفي.

التميمي: القرار ليس تحديثًا إداريًا بل محاولة للسيطرة على السيولة
المختص في الشأن المالي والاقتصادي، ناصر التميمي، يؤكد لـ”بغداد اليوم” أن “قرار الحكومة بفرض التعاملات المالية الإلكترونية داخل المؤسسات، ليس مجرد توجه تنظيمي، بل يأتي استجابة مباشرة لأزمة السيولة النقدية التي تعاني منها الدولة حاليًا”. ويوضح التميمي أن “الحكومة تسعى إلى تقليل الطلب على الكاش، من خلال تحويل المعاملات إلى صيغ إلكترونية رقمية، وهذا من شأنه أن يخفف الضغط على الخزينة العامة”.

ويضيف: “الأزمة قد تدفع السلطات إلى قرارات جديدة، مثل فرض الدفع الإلكتروني في قطاعات أوسع خارج مؤسسات الدولة، أو حتى تقييد سحب الرواتب كاملة من البطاقات الائتمانية، بحيث يُسمح للموظف بسحب جزء فقط والباقي يبقى داخل النظام المصرفي”، مشيرًا إلى أن “مثل هذه الإجراءات تُستخدم عادة في الدول التي تواجه نقصًا حادًا في السيولة، لكنها قد تثير جدلًا واسعًا إذا طُبقت دون تهيئة مسبقة”.

صالح: الاقتصاد ينتقل من الهيمنة المالية إلى النفوذ النقدي
وفي قراءة أعمق لهذا التوجه، يرى الدكتور مظهر محمد صالح، مستشار رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، في احدث تصريحاته، أن العراق يشهد تحولًا تدريجيًا في موازين القوى بين السياسة المالية (المعنية بالإنفاق والإيرادات) والسياسة النقدية (المعنية بإدارة السيولة والاستقرار)، في ما أسماه بـ”الهيمنة النقدية الناعمة” (Soft Monetary Dominance).

ويقول صالح إن “البنك المركزي العراقي بدأ يلعب دورًا محوريًا في إدارة التوازنات الاقتصادية الكلية، بعد سنوات من الضغط عليه للتمويل المباشر لعجز الموازنة”، مشيرًا إلى أن “هذا التحول لا يعني استحواذ البنك على القرار الاقتصادي، بل يشير إلى تراجع هيمنة السياسة المالية التقليدية التي كانت تستند كليًا إلى عائدات النفط”.

ويتابع: “في ظل ضعف الإيرادات غير النفطية، والتزامات الدولة المتضخمة، لم تعد السياسة المالية قادرة على التكيّف مع الصدمات الدورية، ما جعل البنك المركزي مضطرًا لتحمّل العبء الأكبر، من خلال إدارة سعر الصرف، وضخ السيولة، والتدخل في السوق”. ويرى أن هذا التحول يجري تدريجيًا، وبشكل مرن، بحيث لا تفقد السياسة النقدية استقلالها الذي يكفله القانون رقم 56 لسنة 2004.

تداخل السياسات واللجوء إلى أدوات غير تقليدية
يشير صالح إلى أن أحد مظاهر هذه المرحلة هو استغلال أدوات الدفع الإلكتروني كوسيلة غير مباشرة لتدوير النقد وتخفيف الضغط على الكتلة الورقية. ويشرح أن “تحويل المعاملات إلى النظام الرقمي يُمكّن الدولة من إبقاء السيولة تحت السيطرة، ويمنح البنك المركزي مساحة للمناورة في مواجهة التضخم وتقلبات السوق، دون اللجوء إلى طباعة العملة أو التوسّع النقدي المفرط”.

لكن هذا التداخل بين السياسة النقدية والمالية ليس جديدًا، إذ سبق للبنك المركزي أن استخدم أدوات مثل خصم السندات وتمويل الحكومة بطرق غير مباشرة، مما أضعف استقلاليته في فترات سابقة. الجديد اليوم، بحسب صالح، أن البنك بات أكثر انضباطًا، ويُظهر مقاومة لتجاوز حدوده، حتى لو تطلّب الأمر تعارضًا مع السياسات التوسعية التي ترغب بها السلطة التنفيذية.

هل تنجح الدولة في هذا التحوّل؟
يرى المراقبون أن نجاح هذا المسار يتوقف على مدى قدرة الدولة على ضمان التوازن بين فرض الأدوات الإلكترونية وتحقيق العدالة المالية والاجتماعية. إذ لا يمكن فرض أنظمة دفع رقمي دون تحسين البنية التحتية، وتوفير ثقة حقيقية بالنظام المصرفي، لا سيما في الأرياف والمناطق التي تفتقر إلى الوصول المنتظم للخدمات البنكية.

كما يُحذر التميمي من أن أي محاولة لتقييد السحب النقدي دون بدائل واقعية قد تؤدي إلى خلق سوق موازية، أو إثارة مخاوف الناس من فقدان السيطرة على أموالهم. ويضيف: “إذا أرادت الدولة أن تُنجح هذا التوجه، فعليها أن توضح أهدافها بدقة، وتضمن حماية المواطنين من أي استغلال أو فجوات مصرفية”.

وما بين أزمة سيولة ضاغطة، ومحاولة البنك المركزي فرض قواعد استقرار جديدة، يبدو أن العراق يتحرك نحو “نموذج نقدي ناعم” تحاول فيه الدولة ضبط الاقتصاد عبر أدوات إلكترونية بدلًا من الأدوات التقليدية. لكن هذا المسار، رغم ضرورته، يتطلب توازنًا دقيقًا بين الإصلاح والتدرج، وبين السلطة والثقة، حتى لا تتحول الخطوة إلى عبء جديد على المواطنين بدل أن تكون مخرجًا من أزمة قديمة.

عن ali

شاهد أيضاً

يقف حجج بيت الله الحرام على جبل عرفات اليوم الخميس لأداء الركن الأعظم لفريضة الحج

يقف حجج بيت الله الحرام على جبل عرفات اليوم الخميس لأداء الركن الأعظم لفريضة الحج …

وزارة التربية توضح بشأن موعد اعلان النتائج لثالث المتوسط

وزارة التربية توضح بشأن موعد اعلان النتائج لثالث المتوسط بغداد-اكاديمية الاعلام الحربي أكدت وزارة التربية، …